منذ مطلع يناير/ كانون الثاني الحالي، تعامل العراقيون مع أكثر من عشر قصص وأخبار سياسية وأمنية بارزة، تبيّن لاحقاً عدم صحتها كلها، لكن الشارع انشغل وتفاعل معها سياسياً وطائفياً، فيما خصصت وسائل الإعلام المحلية مساحات واسعة لها في التحليل والنقد، دون تقديم الحكومة أو السلطات المعنية أي توضيحات أو نفي لها. وتتحوّل الأكاذيب في العراق إلى جزء من المشهد السياسي اليومي، إذ يقول مسؤولون وسياسيون عراقيون لـ”العربي الجديد”، إنها “صناعة”، تتم عن قصد وتُنفق فيها أموال ووقت وجهود.
عادة ما تكون الأخبار الكاذبة أو المضللة في سياق صناعة الأكاذيب في العراق مرتبطة بملفات سياسية وحزبية، أو طائفية مجتمعية، وتستهدف شخصيات وأحزاباً وفصائل وجماعات مسلحة، إلى جانب قطاع البنوك والاقتصاد والتداول المالي. ورغم سوء ما تفرزه الأكاذيب في العراق من آثار يومية، لكنها تؤكد، وفق مراقبين، تنامي دور الشارع العراقي وخشية الفاعلين في الحكومة وعلى الساحة السياسية منه، وأهمية استمرار تحسس توجهاته. تُفسِر ذلك ظاهرة “المكافآت” التي تخصصها أحزاب وقوى سياسية مختلفة للكثير من الصحافيين والمدونين ومسؤولي الصفحات واسعة الانتشار في العراق على مواقع التواصل الاجتماعي.
تبيّن أخيراً، أن أخباراً كثيرة كانت مفبركة، بينها إصابة زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي بغارة مُسيّرة إسرائيلية، وانسحاب “الحشد الشعبي” من جرف الصخر، ومناقشات داخل “الإطار التنسيقي” لحل “الحشد”، ووفاة المرجع الديني علي السيستاني، واستقالة وزيرة المالية طيف سامي لعدم القدرة على تأمين المرتبات. بالإضافة إلى أخبار أخرى، مثل زيارة قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني لبغداد واجتماعه مع قيادات مسلحة، وصدور قوائم إعدامات جديدة، وصولاً إلى صور ووثائق تم تقديمها باعتبارها وجدت في دوائر مخابرات نظام بشار الأسد وترتبط بسياسيين بارزين تتهمهم بالعمالة.
يتحدث مسؤول عراقي في خلية الإعلام الأمني ببغداد عن أن جانباً من هذه الأكاذيب “يُصنع داخل المنطقة الخضراء (في بغداد وتعد مركز القرار السياسي والأمني)”، في إشارة إلى تورط أحزاب وشخصيات سياسية وحكومية فيها. ويلفت المسؤول في إطار صناعة الشائعات في العراق إلى “غرف ولجان وأموال تُنفق لتحقيق انتشار أوسع لهذه الأخبار المصنوعة”.
بحسب المسؤول العراقي ذاته، فإن “عشرات المكاتب والفرق الإعلامية تابعة لأحزاب وشخصيات سياسية وقوى مسلحة تتولى صناعة الأخبار الكاذبة ونشرها في العراق”، معتبراً أنها تستهدف خصومهما أو تهدف لتحقيق غايات مختلفة، وأخرى للابتزاز السياسي والمالي. ويشير إلى أن “خبر إصابة قيس الخزعلي، تبيّن أن أوساطاً قريبة منه هي التي سربته، وخبر استقالة وزيرة المالية بالتتبع اتضح أنها من حزب في إقليم كردستان – العراق، وشائعة وفاة السيستاني روّجت لها دوائر مقربة من مكتب إعلامي لرئيس وزراء أسبق”. وتعتبر منصة تليغرام مصدر الشائعات في العراق الأول، وفقاً للمسؤول نفسه، ومن خلالها يتم تسريب المعلومات وتوزيعها وإيصالها للجمهور، بسبب امتيازات الخصوصية التي تتيح النشر دون معرفة بلد الناشر أو رقم هاتفه أو التعرف إلى هويته.
تمويل الأكاذيب في العراق
يقر مُعين الكاظمي، النائب في البرلمان العراقي عن تحالف “الإطار التنسيقي” الحاكم في العراق، بوجود ما وصفه بـ”ميزانيات مالية تُصرف على الترويج للشائعات”، مضيفاً في حديث أنه “ليس مستبعداً أن تعمل بعض الجهات السياسية على نشر الشائعات التي يحاسب عليها القانون”. ويشدّد الكاظمي على أن “الشائعات غالباً ما تكون ممنهجة وتحمل معها موجة من التوتر والقلق بهدف تعمية المجتمع أو حرف الأنظار باتجاه قضية معينة”، مضيفاً أن جهات سياسية داخلية وخارجية تقف خلف نشر الشائعات والأخبار الزائفة. من جهته يعتبر الناشط السياسي وعضو التيار المدني العراقي أحمد حقي أن الأكاذيب في العراق والأخبار المزيفة “جزء من إدارة العملية السياسية”، واصفاً النبرة الطائفية بأنها “ترتفع أو تنخفض بحسب ما ترغب به القوى والفواعل السياسية في العراق”. ويرأى في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “الأخبار الزائفة تزيد مع الأزمات الخانقة، مثل الكهرباء المقطوعة، أو تأخر المرتبات، أو فضائح الفساد الحكومي والسياسي لإشغال الشارع طائفياً أو عنصرياً”.
أما إميل ناجي، رئيس تحرير شبكة يلا عراق، وهي واحدة من المنصات واسعة الانتشار في العراق، فيربط بين الشائعات والأوضاع السياسية في البلاد، إذ “تنتشر الشائعات في الأزمات والتوترات السياسية”، لافتاً إلى مصطلح جديد تطلق عليه تسمية “المليشيات الصوتية”، يقول إنها “تُستخدم لخلق النزاعات الطائفية أو لإخفاء الحقائق وتقليل تأثير الأخبار الصحيحة أو المؤكدة، أو لإثارة عواصف مجتمعية”. في موازاة ذلك، نفى مركز أسبر المختص بتدقيق الأخبار في العراق، في بيان، الأحد الماضي، صحة خبر انتشر على نطاق واسع في البلاد، ويتحدث عن إلقاء طائرات منشورات في سماء بغداد، تطالب السكان بالابتعاد عن مواقع الأحزاب والفصائل، مؤكداً أن الصور المنشورة زائفة، وهي في حقيقتها منشورات ألقاها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة.
في هذا الصدد، يقول رئيس المرصد العراقي لحقوق الإنسان مصطفى سعدون، إن “الأخبار المزيفة تلعب دوراً سلبياً وخطراً في خلق الأزمات الاجتماعية، وتتحول سريعاً إلى خطاب كراهية”. ويشير سعدون، الذي استحدث أخيراً مركز أسبر، المعني بتحليل المعلومات وتدقيق صحتها في العراق، إلى أن “ما يحدث اليوم من خطاب كراهية متصاعد في العراق، خصوصاً بعد الأحداث السورية، هو نتاج الأخبار الكاذبة التي تُصنع وتبث بشكل ممنهج”. ويوضح أن هذه الأخبار “تدخل في السياق المجتمعي العراقي اليومي، وتخلق أزمات ليست سياسية فقط، بل داخل الأوساط الثقافية والإعلامية والعشائرية أيضاً”، فيما “تقع ضحية هذا الخطاب أو المعلومات المضللة الفئات الهشة فكرياً أو البسيطة التي تصدق هذه الأخبار”.