د. هدى النعيمي
ما هو معلوم، عانى الجيش السوري خلال حقبة نظام الأسد من تدهور في أدائه المهني، وتحول إلى مؤسسة للفساد والإجرام، وأداة للقمع والاضطهاد، بالإضافة إلى تورطه في تجارة وتصنيع حبوب الكبتاغون، مما أفقده الجاهزية القتالية والقدرة الحقيقية على القتال.
نتيجة لذلك، تمكنت الفصائل المسلحة من التقدم بسهولة نحو حماة، حمص، دمشق، وبقية المدن السورية دون مقاومة تُذكر. وفي 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، أعلنت “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع “السيطرة على دمشق وإسقاط الأسد”.
ولربما كان امتناع القوات السورية وهروبها من التصدي للفصائل المسلحة ناتجًا عن غياب دعم الحلفاء الروس والإيرانيين ومن يساندهم من ميليشيات محلية وخارجية، فضلاً عن وعود القيادة السورية الجديدة بالعفو، والتأكيد على توحيد الفصائل المسلحة تحت مظلة وزارة الدفاع، وتجاوز التحديات العميقة التي تعيق بناء جيش وطني شامل.
ولا يمكننا إغفال أثر الأوضاع الاقتصادية التي عاشتها سورية خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، بسبب سياسات النظام وزبانيته في السرقة والنهب لمقدرات البلاد الاقتصادية، مضافًا إليها ما أحدثته العقوبات الأمريكية من إفقار للشعب السوري، ومن بينهم ضباط الجيش. إذ تشير بعض التقارير إلى أن الجنود كانوا لا يحصلون على ما يكفيهم من طعام، وهذا يعني أنهم في حالة نفسية صعبة وصاروا أقرب إلى المجاعة.
وليس تردي مستوى تدريبات الجيش السوري بشكل كبير، وتراجع الأداء القيادي لضباطه، إلا متغيرًا مهمًا أفضى إلى انسحاب الكثير منهم وفرار بعضهم. يقابل هذا توحيد فصائل المعارضة المسلحة لصفوفها، وتشكيلها غرفة قيادة عمليات مشتركة، واستعدادها الجيد لهذه المعركة وتطوير قدراتها العسكرية، الأمر الذي أسهم في تقوية وضعها أمام الجيش السوري.
وكانت أغلب قيادات الجيش السوري تنتمي إلى الطائفة العلوية، ليكون بقاء النظام أمرًا حاسمًا لضمان أمنهم والحفاظ على مكتسباتهم. وهو ما دفع النظام إلى اعتماد استراتيجية الاعتماد على قوات أمنية موازية، مثل الحرس الجمهوري وميليشيات “الشبيحة” الموالية له.
وبنفس المعنى، فإن القيادات السياسية والعسكرية العلوية التي كانت تسيطر على الدولة حولت قوتها إلى أداة قمع وتدمير، ليكون الوطن هو النظام، والنظام هو الزعيم الأوحد، ومن بعده وريثه، وأن الدولة ومؤسساتها في خدمة “الوطن-القائد”.
وبالتالي، شكل تصاعد العصبية لدى الطائفة العلوية مدخلاً للتصرف بغرور وقوة، بعد أن احتلوا المواقع الرئيسة في الدولة والقوات المسلحة، والتشكيلات العسكرية النخبوية، وأجهزة الأمن والاستخبارات، والحرس الجمهوري، التي تم استخدامها لقمع معارضي النظام في الداخل ومعاقبتهم، إضافة إلى اختيار نخبة من الشباب العلوي ليتلقوا تعليمًا متقدمًا في مجالات متنوعة على نفقة الدولة، ويكونوا جيلًا من القادة العلويين فيما بعد.
وعليه، عززت هذه الاستراتيجية العسكرية ذات الطبيعة الانتقائية-الاستبدادية من العزلة بين الدولة والشعب، بالإضافة إلى ترسيخها لآليات التفكيك المجتمعي، لكنها من جانب آخر وجدت إسنادًا إيرانيًا لها منذ تدخل طهران الواسع في الشأن السوري عام 2011.
ومن هنا، كان مشروع ممر شرق المتوسط الواصل ما بين طهران مرورًا ببغداد ودمشق ووصولاً إلى بيروت محركًا رئيسًا، لدفع ميليشيات شيعية موالية لإيران للوقوف ضد الثورة السورية، وحث “حزب الله” اللبناني على اتخاذ الموقف ذاته لجهة الانحياز إلى دعم نظام دمشق، والدفع بقواته لمحاربة قوى المعارضة السورية.
وبالنسبة لروسيا، فقد كانت سورية تمثل أكثر بكثير من مجرد دولة توفر مرافق بحرية وجوية للقوات الروسية. فقد كان إنقاذ نظام الأسد في الماضي منطلقًا سياسيًا بارزًا يستخدمه الرئيس الروسي بوتين للتأكيد على عودة روسيا إلى مكانتها كقوة عظمى. لكن انهيار نظام الأسد سيحمل الروس على تقليص وجودهم في سورية بشكل كبير، وإن قوتهم الصلبة في المنطقة وطموحاتهم في السيطرة على البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا سوف تتضاءل.
وعندما سمحت تركيا لهيئة تحرير الشام بالهجوم على حلب في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، لم يكن بحسبانها إسقاط النظام، وكانت غايتها الضغط على نظام الأسد للجلوس إلى طاولة المفاوضات بدلاً من الإطاحة به. فقد أدى رحيل بشار الأسد إلى طرح فرص وتحديات أمام أنقرة بسبب علاقاتها المتعددة الأوجه مع مختلف الجماعات المسلحة في البلاد.
وتصفية الوجود الروسي والإيراني في سورية أتاح لواشنطن وضعًا مريحًا، يتعين على الإدارة السورية الجديدة استغلاله، لجهة العمل على منع سقوط البلاد تحت دائرة الإرهاب والعنف، بالنظر للخلفيات المتشددة التي تعتنقها العديد من الفصائل المسلحة، وتقديم رؤية عملية وموحدة لحكومة انتقالية وانتخابات ديمقراطية وحكم مستدام. ويكتسب هذا الوضع أهمية بالغة في ضوء عدم اهتمام الرئيس المنتخب دونالد ترامب المعلن بتعميق التدخل الأمريكي في سورية.
وبعد سقوط نظام الأسد، نفذت الولايات المتحدة عشرات الغارات الجوية التي استهدفت “داعش”، وصفتها بأنها محاولة للتأكد من أن التنظيم لا يستطيع الاستفادة من الفوضى لإعادة تشكيل نفسه. ولا يزال الموقف الأمريكي يشوبه عدم اليقين حيال ما سيؤول إليه موقفهم من قوات سوريا الديمقراطية، والكيفية التي سيتم التصرف بموجبها مع الأتراك في تعاطيهم مع الأكراد.
ولذلك، يعتبر رفع العقوبات الدولية ضرورة لإعادة تأهيل البنية الأساسية — المادية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية — من أجل تمكين الناس من العودة إلى حياة قابلة للاستمرار ومستدامة. حيث يسمح إلغاء “قانون قيصر” على وجه الخصوص، بتحريك الاقتصاد السوري، وتسهيل عملية جلب الاستثمارات الأجنبية، بعد ما أعلنت الحكومة المؤقتة التي أنشأتها “هيئة تحرير الشام”، والتي تنتهي ولايتها في مارس، أنها ستتبنى اقتصاد السوق الحرة.
واليوم تقف البلاد أمام لحظة تاريخية في أعقاب انهيار نظام دموي استبد بالشعب لخمسة عقود، دون أن نغفل تفكك محور إقليمي تم بناؤه من قبل إيران ودعمته روسيا. وهو ما سيضع طهران تحديدًا وأذرعها الفصائلية في حالة من الضعف والتراجع في الدول التي يوجدون فيها.
ومهمة بناء الجيش السوري ليكون مؤسسة وطنية جامعة ليست بالمهمة السهلة، إذ عانت البلاد من تبعات حكم عائلة الأسد، التي اتسمت بالوحشية والقسوة، ليغدو الجيش يد النظام الضاربة، تاركًا خلفه إرثًا طويلًا من الاعتداء والمظالم. وما يقلق على الصعيدين الإقليمي والدولي يتمثل في تأثير الكثير من الجهات الفاعلة الخارجية التي تحاول تشكيل السياسة السورية، وأن نتائج جهودها الخاصة ستلقي بظلالها على السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط، وعلى بناء المؤسسة العسكرية.
ولما كان الاستقرار في سورية يتطلب اتخاذ مجموعة من الخطوات المتعلقة ببناء الجيش وإعادة هيكلته، من بينها صياغة دستور جديد، الذي يعتبر حجر الأساس لأي تحول سياسي وعسكري، وبإشراف حكومة انتقالية شاملة قادرة على تمثيل جميع السوريين، يكمله إصلاح عقيدة الجيش، والتحول من جيش “عقائدي” إلى جيش وطني، والتخلص من هيمنة النفوذ الإيديولوجي السابق. أضف إلى ذلك تحقيق التوازن الإقليمي وعدم السماح للتدخلات الخارجية بالتأثير على السيادة السورية.
ولعل ما يدعو إلى الاطمئنان هو إعلان أحمد الشرع، إلى جانب سياسيين معارضين آخرين، عفوًا عامًا عن جنود الجيش السوري، في إشارة إلى نيتهم الحفاظ على وحدة المؤسسة العسكرية من أجل منع الصراع المسلح الداخلي أثناء إعادة البناء السياسي. ويشير قرار منح العفو للجنود من المستويات الأدنى إلى أن الشرع يدرك تمام الإدراك أنه لا ينبغي له أن يكرر أخطاء القذافي في ليبيا أو أخطاء مدير سلطة الائتلاف المؤقتة في العراق بول بريمر، الذي حل الجيش العراقي في أعقاب الغزو الأمريكي في عام 2003.
وتأسيسًا على ما تقدم، فثمة سيناريوهات مستقبلية تتعلق ببناء المؤسسة العسكرية السورية وإعادة صياغة توجهاتها السوقية والاستراتيجية، وإن كل سيناريو يحمل في طياته تداعيات كبيرة على الاستقرار الداخلي من جهة، وعلى الأمن الإقليمي والشرق الأوسط من جهة ثانية. وفيما يأتي بعض السيناريوهات المحتملة:
– سيناريو بناء مؤسسة عسكرية موحدة تلتزم بالدفاع عن عقد سياسي واجتماعي يضمن الأمن والسلام للشعب، ويحترم الأقليات في البلاد، وصولاً لإقامة دولة مدنية تنأى بالمؤسسة العسكرية عن العمل السياسي، وتعمل على دمج الفصائل المسلحة في جيش مهني، لا يكون طرفاً بين المصالح المتضاربة، في بلد عانى من التدخلات الإقليمية وسيطرة القوات الأجنبية على بعض الأجزاء من أرضه.
قد يكون من الضروري أن تقوم الحكومة الانتقالية بتفكيك البنية التحتية المحلية التابعة لـ”حزب الله”، التي كانت تزوّد مقاتليه في لبنان بالأسلحة. إذ أنشأ الحزب شبكة عسكرية في سورية تمتّد من قرية حضر بالقرب من مرتفعات الجولان، وصولًا إلى مدينة الزبداني في جبال القلمون، ومدينة القصير في محافظة حمص.
وما يساعد على إنجاح هذا السيناريو توافر الدعم الدولي، لإعادة بناء الجيش السوري، وتحويله إلى قوة مهنية وغير طائفية في ظل حكومة ديمقراطية. مترافقاً مع تنفيذ برامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج. والمساعدة في إيجاد بيئة مستدامة لتجاوز الخلافات والاختلافات. وتتوافق خطوة حل الفصائل وإخضاعها للدولة مع سياسة دولية ترعاها واشنطن والدول الغربية، لإنهاء ظاهرة الميليشيات والسلاح المنفلت، التي اتبعتها إيران لنشر أذرعها في المنطقة.
–سيناريو الفشل في بناء مؤسسة عسكرية موحدة، جراء عدم التوافق بين الفصائل المسلحة السورية، والتي تقدّر أعدادها بحوالي 80 فصيلاً، وكذلك الحال بالنسبة للمجموعات في شمال شرق سورية، مثل قوات سورية الديمقراطية “قسد” المدعومة من الولايات المتحدة. ومن المحتمل ألا تنضم هذه الفصائل إلى الجيش الوطني المزمع تشكيله، وهو أمر يعرقل مشروع إصلاح المؤسسة العسكرية.
ويتزامن ما تقدم، مع تمكن الميليشيات المحلية أو أمراء الحرب الذين ارتبطوا في السابق بدول (مثل إيران أو روسيا أو تركيا) من إقلاق الأوضاع الأمنية في مناطق وجودهم، الأمر الذي يؤدي إلى استمرار حالة عدم الاستقرار. ناهيك عن عدم تسليمهم الأسلحة التي بحوزتهم، بما يمكنهم مستقبلاً من الإخلال بمعدلات الأمن.
وليس من المستبعد، أن تحاول قوى إقليمية مثل إيران أو تركيا أو روسيا إعادة تفعيل علاقاتها بالقيادات العسكرية السابقة والعمل على تقويض السيادة الوطنية. خصوصاً وإن قوى المعارضة السورية ما تزال منقسمة على نطاق واسع، ولم تتمكن من إحداث توافق سياسي وحركي فيما بين الفصائل.
وبنفس السياق، تطالعنا أربع مجموعات مسلحة رئيسة تهيمن على المشهد العسكري هي: “هيئة تحرير الشام”، و”الجيش الوطني السوري”، و”قوات سوريا الديمقراطية”، و”فصائل الجنوب”. ودون أن تتوحد هذه الفصائل، فإن الانقسام يعد تحدياً كبيراً يواجه عملية الانتقال من جيش يعتنق العصبوية الطائفية إلى جيش وطني، يعيد بناء اللحمة السورية التي جرى تفكيك عراها على مدى عقود من الإرهاب والتقتيل.
-سيناريو التعثر والمراوحة ما بين العمل على استكمال إعادة تأهيل الجيش السوري أو الفشل في ذلك: والناجم عن العجز في احتواء خطوط الصدع الداخلية المجتمعية والأثنية، والتي يجري توظيفها من قبل الأقليات أو الأطراف الخارجية.
ولا يمكننا إغفال الدور الإسرائيلي الرامي إلى نزع القوة السورية. فبعد الإطاحة بنظام الأسد، نفذت إسرائيل مئات الضربات في أنحاء سورية، والتي شملت البنية التحتية العسكرية السورية، والأسطول البحري، ومواقع إنتاج الأسلحة. كما سيطرت القوات الإسرائيلية على المنطقة العازلة منزوعة السلاح في مرتفعات الجولان، متذرعة بفك الارتباط من الاتفاق الذي أبرمته مع سورية عام 1974 الذي “انهار” مع سقوط النظام.
وقد تكون المناطق ذات الأغلبية العلوية في غرب سورية، والتي تضم أكبر تجمع للضباط ورجال الميليشيات “الشبيحة” مصدر قلق ومنطلقاً لإثارة الاحتكاكات والصراعات، وإغراق البلاد بالمشاكل الأمنية والسياسية.
في الختام، تحتاج سورية إلى استراتيجية شاملة تعيد بناء الجيش كقوة وطنية موحدة، بعيداً عن الطائفية والتدخلات الخارجية. هذا التحول يتطلب دعم المجتمع الدولي لتأمين عملية انتقال سياسي ناجحة تضمن استقرار البلاد، والإقليم.