د. سعد الهموندي
في زمنٍ قريبٍ مضى، كانت الأفكار تصنع الرجال، وكانت الجهود تُقيمُ الإنجازات، وكانت المكانة تُنتزعُ انتزاعًا بالعلم والعمل والكفاح. أما اليوم، فقد اجتاحنا طوفانٌ رقمي جارف، مسح الحدود بين الجاد والسخيف، وبين العميق والهش، وبين الحقيقي والوهمي. أصبحنا نعيش عصرًا يمكن أن يُسمى دون مبالغة “عصر التفاهة”، حيث يتصدر المشهد من يجيد إثارة الضجيج، لا من يصنع القيمة.
لم يعد العرش يُمنح للعقول، بل تُنصّبُ فوقه وجوهٌ فارغة لا تحمل من الرصيد إلا عدد المتابعين وعدد الإعجابات المصطنعة. في زمن السوشيال ميديا، أصبح الطريق إلى الشهرة لا يتطلب أكثر من مقطعٍ تافه، أو لقطة مثيرة للجدل، أو كلمة تافهة تحصد ملايين المشاهدات، فتحوّلت المنصات إلى سوق نخاسة رقمية، تُباع فيها الكرامة مقابل شهرة مؤقتة، ويُشترى فيها التأثير بالضحالة والانحدار.
الشباب – الذين هم وقود الأمم ومستقبلها – باتوا ضحايا هذا الطوفان. عوض أن يكونوا رواد فكرٍ وإبداع، أُغرق كثير منهم في مستنقع “الترندات” الزائفة، وأوهام النجومية الرقمية، والتسابق المحموم نحو إثارة التفاهة لكسب جمهورٍ عابر. لقد صنعت السوشيال ميديا ملوكًا من رماد، قادتهم إلى تصدر المشهد بلا أدنى مؤهل حقيقي: لا ثقافة، لا إنجاز، ولا أدنى رؤية.
والأخطر من ذلك، أن هذه الظاهرة بدأت تتسلل إلى مفاصل أكثر خطورة: السياسة، والإعلام، وحتى البحث العلمي، حيث أصبح بعض السياسيين يقيسون وزنهم بمدى انتشار صورهم ومقاطعهم على المنصات، بدل أن يُقاسوا بإنجازاتهم وخدمتهم الحقيقية للناس، الإعلاميون تراجعوا عن رسالتهم التنويرية، وتحوّلوا إلى “مؤثرين” يبحثون عن أكبر عدد من المشاهدات بأي وسيلة، أما بعض الباحثين، فقد انجرفوا إلى سوق الضجيج، يُصدرون الأبحاث لا لرفد المعرفة، بل لجذب الأضواء والشهرة السريعة.
إن السوشيال ميديا لم تكن يومًا، ولن تكون، مقياسًا حقيقيًا للنجاح أو إثبات الذات. الشهرة الرقمية سرابٌ، يخطف الأبصار لكنه يفتقر إلى الجذور التي تمنح الإنسان قيمة حقيقية وديمومة، فبناء الذات الحقيقي لا يتم عبر نشر المقاطع المثيرة، بل عبر البناء الصامت الطويل: جهدٌ، علمٌ، أخلاقٌ، وأثرٌ حقيقي في حياة الآخرين.
وأمام هذا الانحدار، لا بد أن نمتلك آليات واعية للمواجهة:
التربية النقدية: تعليم الشباب أن لا ينبهروا بكل ما يرونه، وأن يميزوا بين القيمة الحقيقية والضجيج الزائف، مع تعزيز القدوات الحقيقية: إبراز العلماء، والمفكرين، والمبدعين الحقيقيين كنماذج يُحتذى بها، بدل تصدير نجوم التفاهة.
فرض معايير مهنية صارمة في الإعلام والسياسة، بحيث تُبنى المكانة على الإنجاز لا على الضجيج، وخلق مساحات بديلة تقدم محتوى عالي القيمة يجذب الشباب ويغنيهم عن السقوط في مستنقع السطحية.
لقد آن الأوان أن ندرك أن العصر لا يُقاس بضجيجه، بل بعظمته. وأن المستقبل لا يُصنع على الشاشات، بل في العقول والضمائر.
إن مسؤوليتنا اليوم أن لا نكون مجرد شهود على انحدار القيم، بل أن نكون جنودًا في معركة إنقاذ المستقبل من براثن التفاهة والانحدار، إن التفاهة التي تحاصرنا اليوم ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل خطرٌ ثقافيٌّ عميق يهدد جوهر الإنسان وقيم المجتمعات ومستقبل الأوطان. كل دقيقة نسمح فيها لهذا الانحدار بالترسخ، نخسر جزءًا من وعينا، ونقايض جزءًا من مستقبلنا بثمن بخس من الضجيج والإعجابات الزائفة.
لا بد أن نصرخ في وجه هذا الطوفان، لا بد أن نعيد ضبط البوصلة قبل أن تتيه الأجيال القادمة في صحراء الفراغ المعرفي والأخلاقي. فالتاريخ لا يرحم الأمم التي استسلمت للخواء، بل يمجد تلك التي قاومت الجهل بالتنوير، وحاربت التفاهة بالعلم، وانتشلت شبابها من مستنقع الضياع إلى قمم الإبداع والابتكار.
فلن يصنعنا عدد المتابعين، ولن تُقيمنا الترندات العشوائية، ولن يُخلدنا صخب الشاشات. الذي يبقى حقًا هو من يبني، ومن يعلم، ومن يترك أثرًا يشبه الضوء في عتمة هذا العصر الرقمي الصاخب، ولذلك، فإن رؤى المستقبل لا بد أن تبدأ من هنا: من مقاومة التفاهة، ورفع راية الفكر، وبناء أجيال تعرف أن النجاح الحقيقي يُقاس بما نضيفه إلى الحياة، لا بما نعرضه على شاشات الجوال.