#مؤسسة_رؤى_للدراسات
#بقلم_إيان_راسل
إنني أحد الآباء المفجوعين الذين فقدوا أطفالاً لهم نتيجة التأثيرات الضارة التي يطرحها المحتوى عبر الإنترنت. ويسعني أن أجزم بأننا لا نخنق حرية التعبير حينما نشدد الرقابة على شبكة الويب. نحن نبحث عن حماية لأطفالنا وشبابنا من خوارزميات عدوانية تخدم بلا هوادة حلقة مفرغة من المحتوى السيئ. ووفق ما نعرف، إن المحتوى السيئ هو الذي يسبب اضطرابات وضيقاً وأسى ويقود إلى نهاية مفجعة تتمثل في الموت المأسوي، على غرار ما حصل مع ابنتي مولي. وغالباً ما تستحضر حرية التعبير حينما يجري تبرير نشر محتوى مضر. ولكن، بصفتي مناصراً لحرية التعبير، أعتقد أنه لا ينبغي الخلط بينها وبين المحتوى المتاح للجميع.
بداية، ليس صحيحاً الاعتقاد الذي يزعم أننا في عالمنا الواقعي غير المتصل بالإنترنت لنا مطلق الحرية في التصريح بما نرغب فيه. في الحقيقة، هناك قوانين القدح والذم. إنها واضحة جداً وسارية لأسباب وجيهة. إنها موجودة لحماية الناس داخل المجتمع من ادعاءات لا أساس لها، وربما أيضاً لأنه تبين أن غياب تلك القوانين سيطرح مشكلات عدة.
وفي المقابل، يثير اهتمامي أنه في ما يخص القدح والذم، ترانا جاهزين للالتزام بالقواعد، أما حينما يتعلق الأمر بالضرر الشخصي والخطر على الأرواح، فسيسعى بعضهم إلى عرقلة هذا التشريع، بحجة أنه محاولة للتضييق على حرية التعبير.
الحكومة البريطانية متهمة بـ”إضعاف” مشروع قانون الأمان عبر الإنترنت
تكشف أخطار هذا النهج الساذج والحالم في كلام إيلون ماسك عن حرية التعبير، وتفعيله حسابات عدة على “تويتر” بعدما تعرضت للحظر. إن حرية التعبير لا ينظر إليها بالأبيض والأسود لأنها أكثر تعقيداً من ذلك بأشواط.
في ذلك الصدد، يشير تقرير صدر أخيراً عن مؤسسة “ساماريتانز” Samaritans إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع المشاركين في استطلاع أجرته المؤسسة، شاهدوا محتوى يؤذي النفس عبر الإنترنت قبل أن يبلغوا سن الـ14 ربيعاً، بل كان بعضهم في العاشرة من العمر أو دون ذلك. لذا، يبدو جلياً أنه لا بد من اتخاذ إجراء ما لحماية أطفالنا.
إذاً، ما هو ذلك المحتوى المضر؟ حسناً، ليس بالضرورة أن يكون إلحاق الأذى الغرض من نشر مثل ذلك المحتوى. أحياناً، يعرض مستخدم ما صوراً تعبر عن إيذاء النفس أو تشجع على الانتحار، متوخياً أن يقدم أحدهم له يد المساعدة والدعم. ولكن طبعاً لا ينطبق هذا الكلام على كل أشكال المحتوى المؤذي، بل إن عدداً مهولاً من الصور قد نشر خصيصاً مع وجود نية الأذى.
بغض النظر عن الغرض الأساسي منه، لا يجب أن يكون المحتوى المؤلم متاحاً للجميع من دون استثناء. يذهب بعض المنصات الرقمية إلى أنه إذا توسل مستخدم ما محتوى يروج لإيذاء النفس ونشره كصرخة استجداء، ففي هذه الحالة لا يتوجب عليها [المنصات] حذفه. ولكن في الحقيقة، إذا كان انتشال شخص واحد إلى بر الأمان، فيكون جعل 100 ألف شخص ربما أبعد كثيراً من تلك الضفة. بالتالي، لسنا هنا إزاء نهج مسؤول أبداً.
استطراداً، مع وجود التكنولوجيا يغدو من المستطاع الإبلاغ عن ذلك المحتوى، فلمَ لا يصار إلى حذفه وتحويل الإبلاغات إلى خطوط هاتفية تقدم المساعدة، مثلاً؟ هكذا، ينشأ مسار مباشر يوفر الدعم للمستخدم الذي يمر بأزمة نفسية ما، ويخفف التأثير السيئ الذي كان المحتوى سيتركه في حال توسيع انتشاره من طريق المشاركات والخوارزميات على وسائل التواصل الاجتماعي.
واستناداً إلى ذلك، لا تتعلق المسألة فعلياً بحرية التعبير، بل بحرية العيش. وبالاستعادة، لقد صرح اختصاصي نفسي للأطفال (تحدث أثناء التحقيق في وفاة ابنتي مولي) إن النوم جافاه طوال أسابيع بعدما اطلع على محتوى المنصات الاجتماعية الذي تابعته مولي قبل أن تقتل نفسها. كانت ابنتي تبلغ من العمر 14 ربيعاً، لا أكثر.
لقد علقت مولي في فخ خوارزمية أتاحت صوراً مدمرة. وخلص الطبيب الشرعي إلى أن وفاتها تعزى إلى إيذاء النفس والاكتئاب و”الآثار السلبية لمحتوى الإنترنت”. في المقابل، ليس بالضرورة أن يكون المستخدمون هم أنفسهم من سعوا إلى ذلك المحتوى السيئ.
فبصورة عامة، يعرف عن الخوارزميات أنها تعمل بطريقة غامضة نوعاً ما. إنها متعددة ومعقدة. ويخبرنا تقرير “ساماريتانز” أن 83 في المئة من الأشخاص الذين شاهدوا محتوى مضراً لم يبحثوا عنه في الأساس، بل وجد هو طريقه إليهم على شكل اقتراح يوافق هواهم ربما من طريق ميزات مثل صفحات “استكشاف” على “إنستغرام” وصفحات “من أجلك” على “تيك توك”. كذلك وجد التقرير أن 76 في المئة ممن شاهدوا محتوى يؤذي أنفسهم على الإنترنت استمروا في إيذاء أنفسهم بشدة بسبب ذلك.
لذا، نطلب من شركات التواصل الاجتماعي اللجوء إلى المساءلة والتحلي بالشفافية. يبدو لطيفاً كل هذا الحديث عن “ساحات المدينة” [إشارة إلى منصات الوسائل الرقمية للتواصل]. في المقابل، لا تريد تلك المنصات أن تخوض في مناقشة الجانب المظلم لتكنولوجيا الوسائط الاجتماعية.
في الواقع، لم يكن قد مر وقت طويل على وفاة ابنتي مولي حينما سرب أحد المبلغين عن المخالفات، بحثاً داخلياً أجراه “فيسبوك”، ووجد أنه من بين المراهقين البريطانيين الذين أبلغوا عن أفكار انتحارية، تتبع 13 في المئة الرغبة في الانتحار مجدداً على “إنستغرام”.
لذا، فيما تواجهنا مشكلة واسعة بشأن مدى ضرر المحتوى الذي تعرضه الوسائط الاجتماعية (فلاتر الوجه التي تغير ملامح صورته الرقمية، والتوقعات غير الواقعية عن الجمال وما إلى ذلك)، تتبدى مشكلة محددة جداً وبالغة الضرر، لكننا نستطيع ردعها بسرعة، إذا امتلكت الشركات الرغبة والإرادة، أو التزام قانوني، للنهوض بذلك. وتتجسد تلك المشكلة في الصور عن إيذاء النفس والمحتوى الذي يشجع على الانتحار.
تسجل المملكة المتحدة سنوياً نحو 200 حالة انتحار بين أوساط من هم في سن المدرسة. إن كل حالة تعد خسارة فادحة. لذا، بينما نناقش حرية التعبير الرقمي كمفهوم، سيشاهد الشباب المحتوى، وسيصابون بالضيق ويؤذون أنفسهم جسدياً.
في غضون ذلك، كوننا آباء وأمهات أو أولياء أمور أو معلمين، ليس في أيدينا أن نفعل ما يفوق قدرتنا، وهذه نقطة سأناقشها كجزء من مشاركتي في مهرجان “ناو آند بيوند” Now and Beyond [الآن وفي ما بعد] المفتوح للجميع في الثامن من8 فبراير (شباط) المقبل. الأجدى ألا نصاب بالذعر، بل نتخذ إجراءات صارمة. أنا على يقين أنه في بعض الأوقات يكون منع شاب ما من الوصول إلى الإنترنت هو الخيار الصحيح الضروري، لكن انتقالنا إلى هذا الأسلوب لن ينفع إلا في عزل أطفالنا أكثر فأكثر.
واستكمالاً، يجب ألا ننسى عدم إلقاء اللوم على أولادنا. لعلهم لم يبحثوا عن محتوى مضر في المقام الأول، وإذا فعلوا ذلك، فثمة على الأرجح نقطة هشاشة ما، لا بد من معالجتها. لا بد من أن يعرف صغارنا أننا لن نطلق عليهم أي أحكام، وأننا سنكون ملجأهم حينما يصيبهم منشور رقمي ما، بالضيق في أنفسهم. وعلينا جميعاً أن نعرف كيفية الإبلاغ عن مثل هذا المحتوى بغية تشجيع الحذف العاجل.
لن نكون خبراء في التكنولوجيا، لكننا نملك أن نحافظ على خطوط التواصل مفتوحة بيننا وبين أطفالنا أو تلاميذنا. وإلى أن يدخل التشريع الفاعل [بشأن الأمان على الإنترنت] حيز التنفيذ، آمل أن تدرك شركات التواصل الاجتماعي أن أيديها فعلياً ملطخة بالدماء. لا ينبغي اختطاف المفهوم المهم عن حرية التعبير وتشويهه على نحو يسمح للضرر عبر الإنترنت بالبحث عن ضحايا جدد.