د. سعد الهموندي
في مثل هذا الوقت من عام 1991، صوّت مجلس الأمن الدولي على القرار رقم 688، والذي نصّ على حماية الشعب الكوردي من الانتهاكات الواسعة التي ارتكبها نظام صدام حسين، بعد حملات الأنفال والقصف الكيمياوي في حلبجة، وأثناء موجات النزوح الجماعي إلى الجبال والحدود.
كان ذلك القرار تحولًا تاريخيًا في علاقة المجتمع الدولي بالشأن الداخلي العراقي، وهو ما مهّد لاحقًا لقيام كيان سياسي وإداري كوردستاني داخل العراق، تمتع بدرجة من الحكم الذاتي، وتحوّل مع الوقت إلى تجربة مؤسسية لها خصوصيتها وامتدادها الإقليمي والدولي.
لكن اليوم، وبعد مضي 34 عامًا على صدور ذلك القرار الأممي، فإن كوردستان تجد نفسها في مرحلة جديدة من التحدي والتطلّع: فلم تعد القضية الكوردية مجرد قضية “إنسانية” تنتظر شفقة الخارج، بل باتت قضية سياسية ناضجة، تتمتع بمرتكزات مؤسساتية، وتطمح إلى اعتراف استراتيجي دائم يُخرجها من هامش المعادلة إلى مركز القرار.
ولعلّ الذكرى الرابعة والثلاثين للقرار 688 لا ينبغي أن تكون مجرد استعادة لمشهد مأساوي من الماضي، بل محطة تأمل في ما تحقق منذ تلك اللحظة الإنسانية المفصلية، وما ينبغي أن يُستكمل في الحاضر والمستقبل.
فقد نجح الشعب الكوردي، وعلى مدار أكثر من ثلاثة عقود، في الحفاظ على وجوده السياسي، وتطوير كيانه الإداري، وبناء مؤسسات منتخبة، وهيكل أمني منضبط، واقتصاد محلي يتطور رغم القيود. وهذا لم يكن ممكنًا لولا التضحيات الجسيمة التي قدمها، ولولا قدرة القيادة الكوردية على الانتقال التدريجي من خطاب الضحية إلى مشروع بناء الدولة.
لكن التحديات لم تنتهِ، ولا تزال الشرعية الكوردية في النظام الإقليمي والدولي تعاني من التجميد الرمزي، حيث تُمنح مساحة من “الاعتراف الواقعي”، دون أن تكتمل بدوائر “الاعتراف القانوني والسياسي الكامل”. ولهذا، فإن المرحلة المقبلة لا يجب أن تستمر في طلب الحماية الدولية كحالة دائمة، بل في تأكيد استحقاق الاعتراف الدولي بالشعب الكوردي بوصفه فاعلًا سياسيًا مستقرًا، ملتزمًا بالشرعية الدولية، ومنتجًا للاستقرار في منطقة مليئة بالمتغيرات.
إن الانتقال المطلوب اليوم ليس فقط من الحماية الأممية إلى الشراكة الدولية، بل من الشرعية الإنسانية القائمة على مشاهد الألم والمعاناة، إلى الشرعية الاستراتيجية القائمة على الرؤية، والإنجاز، والقدرة على إدارة الذات بفعالية.
فالدول والشعوب لا تُقاس فقط بما تعرضت له من ظلم، بل بما تنجح في إنتاجه من نماذج حكم، ومؤسسات قوية، وشراكات إقليمية متزنة.
إن كوردستان اليوم تمتلك مقومات هذا التحول:
مؤسسات منتخبة ومجتمع مدني نشط.
قوات أمن مدربة ومنضبطة تحظى بثقة المواطن والشركاء الدوليين.
بيئة استثمارية أكثر انفتاحًا من بقية مناطق العراق.
دبلوماسية مرنة ومتنورة يقودها مسؤولون من طراز حديث، قادرون على بناء العلاقات دون صدام، وتحقيق المكاسب دون ضجيج.
لذلك، فإن ذكرى القرار 688 يجب أن تُستثمر كمنصة لإعادة طرح القضية الكوردية ليس كقضية إنسانية فقط، بل كمشروع سياسي ناضج، وكمكون أساسي في المعادلات العراقية والإقليمية والدولية.
إننا نقف اليوم على أعتاب لحظة تاريخية حاسمة، لحظة تفرض على الشعب الكوردي وقادته الانتقال من موقع ردّ الفعل إلى موقع صناعة القرار، من انتظار المواقف الدولية إلى تشكيل الوقائع على الأرض، ومن التعويل على الحماية الأممية إلى بناء شرعية متجذرة في الأرض، ومنظومة متكاملة للدولة.
فإما أن يتحوّل الكورد إلى قوة استقرار وتوازن إقليمي، تملك قرارها، وتحمي مكتسباتها، وتقدّم نموذجًا ديمقراطيًا فاعلًا، أو أن يبقوا أسرى سرديات الماضي التي تستهلك الطاقات وتُعيد إنتاج الألم دون مشروع واضح للمستقبل.
الخيار اليوم لم يعد خيار الخارج وحده، بل بات بيد الداخل الكوردي، بيد من يملك الرؤية، ويؤمن بالمؤسسات، ويُدير الخلافات بالحوار لا بالتنازع، ويضع الاستحقاق الوطني فوق المكاسب الحزبية أو اللحظية.
فالانتقال من “الحماية” إلى “الاعتراف” لن يحدث بشعارات عاطفية، بل من خلال مشروع وطني عقلاني، قادر على إقناع الداخل والخارج بأن كوردستان ليست كيانًا هشًا يحتاج وصاية، بل شريكًا ناضجًا في الاستقرار الإقليمي، وقوة مدنية تُجيد لغة الحكم الرشيد والتوازن الجيوسياسي.
وفي عالمٍ لا يعترف إلا بمن يمتلك أدوات القوة، والسياسة، والمبادرة، فإن السيادة ليست منحة، والاعتراف لا يُنتظر، بل يُنتزع بالبناء والتماسك والجرأة على التفكير طويل الأمد.
فنحن لسنا قضية إنسانية تنتظر قرارات مجلس الأمن فقط، نحن قضية شعب نملك أدواتها، وإرادتنا لا تُحمى فقط… بل تُبنى أيضاً.