العراق بين المؤخرات والمؤهلات
عندما تحكمنا الواجهة بدل الكفاءة
د. سعد الهموندي
في عراق اليوم، لم تعد الشهادات العليا ولا العقول النيرة هي من تصنع القرار، بل باتت “المؤخرات” تسبق “المؤهلات”، و”الوجوه المزيفة” تتقدم على “الكفاءات الحقيقية”، ففي السياسة كما في الإعلام، لم يعد السؤال: “ماذا يمكنك أن تقدم؟”، بل أصبح: “كم متابعًا لديك؟”، “و”إلى أي جهة تنتمي؟”.
بلاد الرافدين التي أنجبت العلماء والمفكرين والمبدعين، أصبحت اليوم مرتعًا لسطحية مستوردة، حيث تتصدر الفاشنستات طاولات النقاش السياسي، ويُستبعد أهل الاختصاص لصالح مشاهير التجميل، وحيتان المال، وزعماء المصالح الضيقة، في ظل هذه الفوضى، لم تعد المحسوبية مجرد سرطان ينخر مؤسسات الدولة، بل تحولت إلى نظام عمل متكامل، يديره الفاشلون، ويتغذى على إقصاء الأكفاء، ويرتدي قناع “الحداثة الإعلامية” و”الوجاهة السياسية”.
والسؤال الذي لطالما بحثت عن جواب له؛ هل أصبح العراق بيئة طاردة للعقول ومنجم ذهب للباحثين عن شهرة زائفة؟
فلا شيء يفسر كيف أصبح الفاشلون هم قادة الرأي، بينما أصحاب الخبرة والشهادات يجدون أنفسهم إما في طوابير البطالة أو في مقاعد الهجرة القسرية، فرغم أن الإعلام سلطة رابعة، إلا أنه اليوم أصبح مرتعًا لكل من هبّ ودبّ، فسابقاً تعلمنا أن السياسة ميدانًا للأذكياء، لكن اليوم نراها وقد أصبحت ساحة لمن يملك العلاقات وليس العقول، فالكفاءات العراقية التي بنت عواصم ومدنًا في الخليج وأوروبا وأمريكا، لم تجد لها موطئ قدم في بلادها، لأن شلة الفاشلين والمحاسيب قررت أن الوطن ملكية خاصة تُدار كأنها “غروب” على إنستغرام.
اليوم وفي زمن العراق الجديد، لم نعد بحاجة لخبرة سياسية أو تاريخ نضالي أو حتى شهادة علمية مرموقة لتصبح صاحب قرار، كل ما عليك فعله هو أن تكون “ترندًا” في السوشيال ميديا، أو أن تكون لك صورة مع أحد المتنفذين، أو أن تُتقن فن التقرب من الدوائر المغلقة.
فهل سمعتم يومًا عن الفاشنستات اللواتي تحولن إلى مستشارات إعلاميات؟ عن عارضات الأزياء اللواتي أصبحن قادة رأي في ملفات اقتصادية؟ عن الـ “تيكتوكرز” الذين يوجّهون بوصلة الرأي العام؟ لقد سُرقت السياسة والإعلام من رجال الفكر والعلم، وتم تسليمها لمن يملكون الحضور البصري لا الفكري.
ففي السابق، كان الصحفيون يعانون للوصول إلى المعلومة، أما اليوم، فتكفيك صورة مثيرة أو مقطع فيديو تافه كي تصبح “صانع محتوى”، ومنها إلى شاشات التلفزيون، ثم إلى موقع القرار.
لقد كان الإعلام في زماننا الشبابي يُسمى “مهنة المتاعب”، لأنه كان صوت الناس في مواجهة السلطة، وكان يحتاج إلى صبر ودراية وثقافة وحنكة، أما اليوم، فقد تحول إلى “مهنة الاستعراض”، حيث لا يحتاج الإعلامي إلا إلى الكاميرا والميكروفون وجرعة من “الاستعراض البصري”، ليصبح نجمًا يُستضاف في كل مناسبة.
صار يُنظر إلى الصحفيين وأصحاب الرأي الحقيقي على أنهم “عقبات” في طريق الترند، واستُبدلوا بوجوه بلا مضمون، لا يعرفون الفرق بين السياسة والاقتصاد، ولا يفرقون بين المعلومة والتحليل، لكنهم يعرفون كيف يجمعون المتابعين، وكيف يركبون موجة التريندات، وكيف يستغلون الجهل الجماهيري لصالح أجنداتهم.
إذا كنت عراقيًا طموحًا، فاحرق شهادتك، لأن الوطن لا يعترف إلا بالمحاباة! والمناصب تُوزع بالمزاد، والإعلام يُباع لمن يدفع أكثر، إن كنت تملك الكفاءة وحدها، فمكانك الطابور الخلفي، أما إن كنت تملك العلاقات، فستصل إلى الواجهة حتى لو كنت فارغًا.
اليوم في بلد مثل العراق، أصبح هناك معيار جديد للنجاح: ليس علمك، ولا خبرتك، ولا اجتهادك، بل “ماذا يمكنك أن تقدم لمن بيده القرار؟”. إذا كنت مفيدًا لأصحاب النفوذ، فأنت “كفوء”، وإذا كنت خارج اللعبة، فاعلم أنك مجرد رقم زائد.
والسؤال الآخر الذي يطرحه الجميع: هل يمكن إنقاذ العراق من هذا المسار الخطير؟ هل يمكن استعادة هيبة المؤسسات وإرجاع الأمور إلى نصابها؟
الإجابة بسيطة لكنها قاسية: لن يحدث ذلك إلا بثورة ثقافية حقيقية، لا تكتفي بالنقد، بل تفرض معايير جديدة للنجاح، لا يكفي أن ننتقد الفساد، بل يجب أن نقاطع كل واجهات الاستعراض الزائفة، أن نرفض إعلام “الترند”، أن نحارب التطبيل للوجوه الفارغة، وأن ندعم الكفاءات العراقية الحقيقية التي ما زالت تحاول الصمود وسط هذا الطوفان من الرداءة.
العراق يحتاج إلى رجال دولة، لا إلى “فاشنستات” على طاولات السياسة، يحتاج إلى مفكرين، لا إلى مشاهير الـ “سناب شات”، يحتاج إلى أهل الاختصاص، لا إلى تجار العلاقات.
فهل نستفيق قبل فوات الأوان، أم سنبقى نرقص على ألحان الجهل حتى ينهار كل شيء؟
عراقنا اليوم بات بين المؤخرات والمؤهلات… وأنت، في أي صف تقف؟