حسام_الغزالي#
في لحظات استثنائية من عمر الشعوب، قد يقف فرد واحد أمام آلة القمع، ليشعل شرارة قادرة على إحداث زلزال في هذا العالم الغريب العجيب، فليس كل من يعاني الظلم يملك الجرأة على مواجهته، وليس كل من يرى الجريمة يستطيع أن يُدينها، لكن هناك لحظات لا يكون فيها الصمت خياراً، بل يكون الموت ذاته أكثر شرفا من التواطؤ، وهذا بالضبط ما فعله “فريد المذهان” الملقب بالقيصر”، الرجل الذي قرر أن يُخاطر بحياته، ليكشف واحدة من أبشع الجرائم في العصر الحديث.
ففي سوريا التي حكمها الأسد وعائلته المجرمة، حيث لا ينجو أحد من قبضة أجهزة المخابرات، كان القرار الذي اتخذه المساعد الأول “فريد المذهان” والذي ينحدر من محافظة درعا، ضربًا من الجنون، فكيف لرجل يعمل داخل النظام، ويُشرف بنفسه على توثيق جرائمه، أن يقرر قلب الطاولة على منظومة قمعية تمتلك كل أدوات البطش؟ كيف قرر أن يُهرّب آلاف الصور من داخل أروقة الموت، في بلد يُراقب فيه المواطن حتى في نومه؟
لم يكن قيصر جنديا على الجبهة، ولم يحمل سلاحا ضد النظام، لكنه فعل ما هو أخطر من ذلك بكثير، لقد وجّه إلى النظام السوري أقوى ضربة يمكن أن يتلقاها طاغية، إذ كشف الحقيقة بالصورة والدليل القاطع، ففي دولة قامت عقيدتها الأمنية على إنكار المجازر، جاءت تسريبات قيصر لتضع العالم أمام جريمة موثقة بكل تفاصيلها، تحمل الأسماء والوجوه والجثث المشوهة، وتروي فصول الإبادة المنظمة التي كان يمارسها الأسد خلف القضبان.
حين قرر قيصر أن يخرج بصوره إلى العالم، لم يكن يدرك أن قراره هذا سيغير شكل المواجهة الدولية مع النظام السوري الأسدي، لم يعد بالإمكان التغاضي عن الفظائع، ولم تعد الجرائم مجرد “مزاعم” أو “تقارير إعلامية”، فخظوته هذه ولأول مرة وضعت النظام الأسدي تحت ضوء المساءلة الدولية الحقيقية، وبدأت حكومات العالم تعيد تقييم مواقفها.
ففي الولايات المتحدة، دفع التسريب المروع الكونغرس الأمريكي إلى إقرار “قانون قيصر”، الذي فرض عقوبات اقتصادية غير مسبوقة على النظام السوري وكل من يدعمه، وأصبحت التسريبات أحد أقوى الأدلة التي تم استخدامها في المحاكم الأوروبية ضد شخصيات أمنية سورية متورطة في جرائم حرب، كما حُرم النظام الأسدي من أي فرصة لإعادة تأهيل نفسه دبلوماسيًا، بعدما أصبحت صوره تلاحقه في كل محفل دولي.
لقد فعل قيصر ما لم تستطع الجيوش والدبلوماسية فعله؛ فقد كشف للعالم، وللتاريخ، أن آلة الأسد الأمنية لم تكن تحارب إرهابيين كما كانت تدعي، بل كانت تنفّذ إبادة ممنهجة ضد المدنيين.
لنقول هنا هناك لحظات يكون فيها القرار الفردي أقوى من كل الأيديولوجيات والسياسات والجيوش، إن قيصر لم يكن يملك إلا كاميرته وضميره، لكنه استطاع أن يفعل ما لم تستطع دول بأكملها فعله، فقراره لم يكن مجرد عملية توثيق، بل كان عملا بطوليا غيّر مجرى الأحداث، وأجبر العالم على الاعتراف بحجم الفظائع التي تحدث في سوريا.
إن قصة “فريد المذهان” ليست مجرد قصة عن رجل تحدى نظاما قمعيا، بل هي درس لكل إنسان بأن الحق، حتى لو حمله شخص واحد، قادر على هزيمة أعتى الطغاة.
حسام الغزالي